معادلة الإسرار والإعلان
محمد بن المختار الشنقيطي
من الإشكالات الرئيسية التي تشكل تحديا للحركات الإسلامية قضية الإسرار والإعلان في العمل، وحدود كل منهما. والقاعدة الشائعة في هذا الشأن هي تلك دعاها الإمام حسن البنا "علنية الدعوة وسرية الحركة". فالدعوة - من هذا المنظور - لا بد أن تكون علنية : بلاغا مبينا يحرك كوامن الفطرة الإسلامية في قلوب الأمة، ويبين للناس الطريق إلى الله بالحسنى، ويقيم الحجة على العدو المناوئ. والحركة لا بد أن تكون سرية: تأمينا لمستقبل الدعوة، وتركيزا لجهد العاملين، وتفاديا لكيد الظالمين .
وليس من السهل أبدا النجاح في هذه المعادلة: إذ يميل بعض العاملين إلى التخفي المفرط حرصا على النوعية، وتأمينا لرأس المال المتحصل؛ ويميل آخرون إلى العلنية بغير حساب، أملا في التوسع والاكتساب. وكثيرا ما ينتهي المنحى الأول بالجمود، والثاني بالتسيب .
والذي أراه هو ضرورة الفصل بين مجالات السر والعلن بشكل حدي صارم، يحصر الإسرار في نواة قيادية صلبة، وفي أجهزة محدودة مكلفة بمهام مخصوصة، ثم يَترُك الهيكل الحركي العام واسعا فضفاضا، قادرا على استيعاب أكبر عدد من الناس، بمن فيهم الذين يوالون ولاء ناقصا، أو تجمعهم مع الحركة الإسلامية أهداف ظرفية جزئية .
فهذا النهج سيفيد الحركات الإسلامية إفادات عظمى، هي في مسيس الحاجة إليها اليوم، ومنها :
تسهيل مهمة الاكتساب من خلال انفتاح الحركة على المجتمع، وإدراك المجتمع لمضمون رسالتها وأهدافها، وهو ما لن تتمكن منه أي حركة تحبس نفسها في أجواء التوجس والانغلاق .
كسر حاجز العداء بين الحركة والآخرين. وقد أشار الدكتور عبد الوهاب الأفندي في دراسته للحركة الإسلامية السودانية إلى أن "سبب عداء أعدائها ناتج عن ضئالة ما يعرفونه عنها، لا ضخامته" (1). وهي حقيقة لم ينتبه إليها كثيرون.
تمكين الحركة من الإسهام الجدي في المعركة السياسية، وهو ما لا يمكن بدون كم بشري كبير، ولا كمَّ بغير انفتاح وتفاعل مع المجتمع، والرضا من كلٍّ بما يجود به .
? تأمين أسرار الحركة من خلال المظاهر المعلنة الطاغية، التي تستنزف طاقة العدو المتربص، وتلفت نظره عن الأسرار الحقيقية .
إن القاعدة التقليدية المتداولة بين الإسلاميين حول "علنية الدعوة وسرية الحركة" ليست على إطلاقها :
فعلنية الدعوة غير ممكنة بشكل كلي، إذ الحركة تحتاج أحيانا إلى اتصالات خاصة ببعض المستهدَفين بخطابها، ممن لا تسمح مواقعهم بمخاطبتهم علنا، كما أن برامجها لا بد أن تتضمن ما لا يحسُن تقديمه على المكشوف.
وسرية الحركة غير متاحة يإطلاق، فهي تحتاج إلى إبراز قادة يكونون رموزها ووجوهها لدى المجتمع، ودعاة يكونون لسانها وخطابها، ومناضلين سياسيين يعبرون عن رؤيتها للحرية والعدل الاجتماعي.
ومن العسير التستر على الروابط التنظيمية التي تربط هؤلاء، نظرا لما يستلزمه عملهم من الاشتهار والتعرض، ودوام التنسيق والالتقاء. والأعسر من ذلك التستر على أشخاصهم. ولو فُصِلت أسرار الحركة عن هؤلاء لأمكنهم الحديث بلسان طليق، والصدع بما يحملونه من مبادئ وأفكار، والتحرك بخططهم السياسية والاجتماعية دون أي خطر على الأسرار الحيوية للحركة جراء ذلك .
وهكذا يتضح أن الحركات الإسلامية ليست سرية بمعنى الكلمة، وليس من الضرورة ولا من المصلحة أن تكون كذلك. كل ما في الأمر أن لديها أسرارا يجب عليها تأمينها. وقد تكون تلك الأسرار في شكل أشخاص أو برامج أو خطط أو هيئات مخصوصة. إن المطلوب من الحركة هو أن تؤمِّن أسرارا محدودة، وأن تكتسب المجتمع كله أو جله. فكلما تم حصر تلك الأسرار وفصلها عن مجالات العمل العلنية، كان ذلك أشد تأمينا لها. وكلما انفتحت الحركة على المجتمع وتضاعف كمها، كلما أمكن التستر على تلك الأسرار، كالدرة الثمينة في بحر محيط.
على أن فصل أسرار الحركة عن عملها العلني لا يعني ازدواجية في القيادة، تطلق العنان للأجهزة الخاصة، لتسرح وتمرح، وتناور وتغامر، بعيدا عن ضوابط الاستراتيجية العامة للعمل، ورقابة القيادة التنفيذية والشورية، فتجر عموم الحركة إلى كوارث. ولا يزال الجدل دائرا حول دور المرحوم عبد الرحمن السندي والشهيد مروان حديد في جر الحركتين الإسلاميتين المصرية والسورية إلى بعض المزالق السيئة، وبعض المواجهات التي لم تنضج لها الظروف (2).
إن المطلوب من الحركات الإسلامية هو تقدير منضبط لمجالات السر والعلن وفصلهما وظيفيا وبشريا، مع إبقاء قنوات الاتصال الخاصة مفتوحة بين المجالين، بما يضمن تناسقا وانسجاما في التوجه، وتأمينا واحتياطا في العمل، ووحدة في القيادة والقرار. وهذا التقدير المنضبط لحدود السر والعلن هو الذي يمكن الحركة من رفع الحجب، وكسر حاجز الريبة والخوف بينها وبين مجتمعها.
لكن مجالات السر والعلن اختلطت في حركات إسلامية كثيرة - مع الأسف - فلم يبق السر سرا، ولا العلن علنا. كان الإمام الشهيد حسن البنا يكتب في الصحف يشيد ببعض العسكريين من قادة "النظام الخاص" - مثل صلاح شادي - وكان بعض أولئك القادة (مثل شادي نفسه) يقوم بوظيفة الحسْبة، بشكل مكشوف (3) وكأنه يعيش في دولة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، لا دولة الملك فاروق. وقد حدث ذلك في الوقت الذي كان فيه الإخوان يدرسون فقه الدعوة وعلوم الشرع في الخلايا السرية !!!
فهل نراجع تلك التجارب بتمحيص وبصيرة، أم نظل أسرى لرؤية الماضي ومقولاته؟؟
-------------------------------
هوامش
(1)- Abdelwahab AL-Affendi : Studying my movement : Social Sciences without cynicism(in : International Journal of Middle Eastern Studies, 23, 1991 p. 85)
(2)- حول دور عبد الرحمن السندي انظر رؤيتين مختلفين لدى كل من أحمد كامل: "الإخوان المسلمون ، نقاط على الحروف" وصلاح شادي : "حصاد العمر" .
(3)- تحدث صلاح شادي عن هذه الأمور وغيرها في كتابه : "حصاد العمر"
المرجع مجلة الفقه السياسي